18 مايو 2009

الطفولة المبكرة عند ابن خلدون

يكن الفكر التربوى حكراً على فلاسفة الغرب، بل كان للفكر التربوى الإسلامى على مر العصور إسهاماته الفاعلة فى تطوير التربية ، ولا يقل بحال من الأحوال عن فلاسفة ومفكرى الحضارة الغربية إن لم يكن متفوقاً عليهم فى بعض جوانب التربية ، حيث جاءت كتابات عدد كبير من فلاسفة المسلمين بآراء مبتكرة ، ومذاهب تربوية كاملة مستمدة مما ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
ويعد ابن خلدون عبقرية عربية واسلامية متميزة ، ، والمجدد لعلم التاريخ ، وله افكاره الرائدة فى علم التربية تخطت عصره ، وما أحوجنا الى تطبيقها فى تربية أبنائنا فى عصرنا الراهن ، نورد من هذا الفكر التربوي الخالد بعض الآراء التى تناولت تربية الطفولة المبكرة ، كما وردت فى مقدمته الشهيرة ، التى خصص فيها باباً كاملاً تناول فيه العلوم وأنواعها والتعليم وطرقه المختلفة، ويقتصر العرض على طائفة من آرائه التربوية ، وخاصة ما يتعلق منها بتربية الأطفال فى مراحلهم الأولى ، وذلك فيما يلى:

- يرى ابن خلدون ضرورة ترتيب العلوم التى يدرسها الأطفال فى هذه المرحلة ، ويوضح العلوم التى يبدأ الطفل فى تعليمها ، فيقول : " إن تعليم الولدان القرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الحديث ، وصار القرآن أصل الحديث وينبنى عليه مايحصل بعد من الملكات ، وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده ، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات ، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبنى عليه".

- وعلى الرغم من تقرير ابن خلدون أهمية تعليم القرآن الكريم للأطفال فى بدء كل تعليم وأوضح آثار ذلك فى تكوينهم ، غير أنه ذكر رأى القاضى " أبو بكر بن العربى" وأقره الذى يرى تقديم تعليم اللغة العربية والشعر على سائر العلوم ، ثم ينتقل الطفل منه إلى تعليم الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن ، فإنه يتيسر عليه دراسته بهذه المقدمة ، ويبدو هذا الرأى غير مألوف ، حيث ما استقر فى الأذهان واثبتته تجارب الواقع أن بدء التعليم بحفظ القرآن الكريم فى الصغر يعود الطفل على سلامة النطق واستقامة اللغة وتوسيع مدارك الطفل ، فمن المعروف أن كثيراً من الأئمة حفظوا القرآن فى سن صغيرة قبل بداية أى تعليم ، وثمة من يؤيد ابن خلدون فى إقراره لهذا الرأى .

- كما يرى ابن خلدون أن كثرة العلوم التى تقدم للأطفال مضرة بهم ، لأنها تؤدى إلى حشو ذهن الطفل بتفاصيل من المعرفة لاحاجة إليها فى هذه المرحلة من التعليم ، فيقول : " ما يضر الناس فى تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التأليف واختلاف الاصطلاحات فى التعليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم باستحضار ذلك ، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها فيقع القصور" وهنا يضع ابن خلدون مبدأً من أهم مبادئ التربية وهو أن تتناسب طبيعة العلوم التى يدرسها الأطفال مع طبيعة نموهم العقلى ، وأن كل زيادة فى هذه العلوم سوف تؤدى إلى تكوين عادات غير مرغوبة تربوياً مثل قلة الفهم والتعود على الحفظ والاستظهار .

- يوضح ابن خلدون أسلوب التدريس الأمثل للأطفال ، بقوله : " إن تلقين العلوم للمتعلم إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً ، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب هى أصول ذلك الباب ، ويقرب له فى شرحها على سبيل الإجمال ، ويراعى فى ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهى إلى آخر الفن ، وعند ذلك يحصل له ملكة فى ذلك العلم " ، وبهذا يسبق ابن خلدون بآرائه فى أساليب التعليم علماء النفس والتربية فى العصر الحديث ، حيث يقرر الطريقة الكلية فى التعليم ، وهو ما أقرته نظريات التعلم فى العصر الحديث ، كما يقرر ابن خلدون مبدأً آخر هو مراعاة القدرات العقلية للمتعلم أثناء التدريس من خلال التدريج فى التعليم بما يناسب ذكاء واستعداد كل طفل ، أو ما يطلق عليه فى عصرنا الحديث بمصطلح مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ.

- وضح ابن خلدون الأسلوب الأمثل للتعامل مع الأطفال أثناء التدريس حيث نهى عن ممارسة الشدة واستخدام أسلوب القهر والتعسف مع المتعلمين لأنه يضر بتكوين شخصياتهم، فيقول : " من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر وضيق على النفس فى انبساطها ، وذهب بنشاطها ، ودعاه إلى الكسل ، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما فى ضميره خوفاً من انبساط الأيدى بالقهر عليه ، وعلمه المكر والخديعة ، وصارت له هذه عادةً وخلقاً ، وفسدت معانى الإنسانية التى له وهى الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله ، وصار عيالاً على غيره فى ذلك ، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد فى أسفل السافلين " ، وقدم ابن خلدون أمثلة لأمم تعرضت لهذا القهر والتعسف فساءت أخلاقها ، ويختتم ابن خلدون فكره التربوى فى الثواب والعقاب بقوله : " ينبغى للمعلم فى متعلمه والوالد فى ولده أن لا يستبد عليه فى التأديب "

وهكذا نظر ابن خلدون إلى التعليم على أنه صنعة ، أو مهنة مثل غيره من المهن تحتاج إلى الإعداد والتأهيل المناسب للقيام بها على خير وجه ، وبين ترتيب العلوم التى تقدم للأطفال ، وأساليب التدريس وكيفية التعامل مع الأطفال ، وبهذا فقد سبق ابن خلدون فى كثير من آرائه المذاهب التربوية الحدبثة .
د . على عبد الرؤوف نصار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق